نجيب سرور كما يراه طلال فيصل

 
 
يروي كتاب سرور للكاتب طلال فيصل قصة الشاعر والمسرحي نجيب سرور عن طريق عرض حوارات صحفية مع أهم من عرفوه أو سرد لمناجاة شخصية لم يتم نشرها, تسرد جميع القصص بمنظور الشخص الأول first person narration لتأكيد شخصنة سرد الاحداث في الرواية, فكل شخصية تروي أحداث حياة نجيب سرور من وجهة نظرها الشخصية وتتحمل مسؤوليتها الكاملة. جميع أحداث الرواية من وحي خيال الكاتب إلا أنها مستوحاة من سيرة نجيب سرور الحقيقية.
وبات يظن الناس في ظنونهم, وثوب نجيب سرور مما يرجم الناس, طاهر. رحل نجيب سرور عن عالمنا بتراجيديا مماثلة لقصصه, غادرنا مبكرا قبل أن يروي لنا عن نفسه فنعرف عنه ما يسد جوع فضولنا. لم يبق من نجيب سرور إلا وجهات نظر من عاشروه فيه لا وجهة نظره هو في نفسه, واشعار واعمال مسرحية ونقدية اعدمت بشكل غير رسمي بينما نفي هو في بلده حين ينعم اقرانه وزملائه بأمجاد الشهرة والاستحسان حينما خالفوه الرؤية.  وعن أشباح نجيب سرور في الأجيال اللاحقة فهي قليلة جدا, فلم ينل نجيب سرور حظه من الدراسات الجادة لأنه لم يلحق بعصر التدوين الرقمي والأرشفة. فمن الصعب الحصول على النسخة الأصلية من أعماله هذا إن أمكن الوصول لها.
 
محمد نجيب محمد هجرس, قائد الكتيبة الخرساء , شاعر مصري من مواليد يونيو 1932 بقرية إخطاب، مركز أجا، محافظة الدقهلية. مثل اقرانه من الشعراء وقتها: أمل دنقل وعبد الرحمن الابنودي وغيرهم,  نشأ سرور في بيئة ريفية أصلت فيه الثورية ضد الاقطاعية والميل للتيار اليساري. بينما خلق له والده بيئة خصبة للثقافة فقرأ في الأدب والعلوم والفلسفة والدين واللغات ليترك كلية الحقوق ويلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 56 ويبدأ من بعدها رحلة انتاج ثرية بالاعمال الادبية القوية. التحق بأحد البعثات في الاتحاد السوفيتي وانضم للحزب الشيوعي هناك إلا ان الوفاق لم يدم طويلا و وسرعان ما اصطدم سرور بتنظيمات الحزب فهرب إلى المجر ومنها إلى مصر عام 1964. استمرت معارضة سرور للنظام والاقطاعية والنظام لفترة أطول حتى وفاته, هاجم فيها أدباء وحكام الدولة حتى عام 78م(عام وفاته), لاقى بسببها اهتمام غير مرغوب فيه من المخابرات المصرية وتودعه المخابرات المصرية في مستشفى الامراض العقلية حتى توفى هناك.
 
من الكتابات القليلة التي ناقشت نجيب سرور كفكرة وكشخصية هي رواية "سرور" للكاتب طلال فيصل, يخاطِب فيها طلال فيصل نجيب سرور على لسان المقربين له بطريقة غير مباشرة. "أنا عارف إني هموت موتة ما ماتها حد" يردد سرور في أشهر قصائده التي كتبها أثناء اقامته في مستشفى العباسية التي أخذت رواج الفضيحة لا الموهبة. يتحدث الناس عنها لا عن ياسين وبهية لا عن قصيدة الحذاء ولا عن الذباب الازرق ولا لزوم ما يلزم ولا عن مراجعاته الأدبية ومقالاته عن المسرح والفنون. تعد رواية سرور رواية متعددة الأصوات, يلجأ فيها الكاتب لعرض وجهات نظر مختلفة لسرد قصة واحدة لغرض الالتزام بالموضوعية. تقسم الرواية الى اربعة اجزاء كل جزء يعرض وجهة نظر احدى الشخصيات في نجيب سرور والاحداث التي شهدها معه. يظهر رغم الموضوعية صدق تقدير الكاتب لنجيب سرور فتنقسم الشخصيات الى فريقين, الاول يؤيده بشدة والثاني يبغضه ملئ السمع والبصر في موازاة واضحة لحال قراء نجيب سرور على أرض الواقع, إما يجده يسوع عصره أو مختل مثير للشفقة.
يستفتح طلال فيصل الرواية ببيت شعر يشرح فيه دافعه الأصلي وراء مشروع رواية سرور, محاولة حقيقية لفهم من هو نجيب سرور وعرض سؤال لم يستطع هو نفسه الاجابة عليه, وبإمكان القارئ المطلع على اعمال سرور الادبية أن يعرف أن نجيب سرور نفسه لم يجب على أي من الأسئلة المطروحة بشكل مباشر. ادرج طلال فيصل شخصية وهمية باسمه في الرواية لكنها تختلف في أغلب التفاصيل عن شخصيته الحقيقية ربما بدافع ابعاد تهم الشخصنة إلى الراوي أو لمجرد اشباع رغبة طفولية صادقة داخل طلال فيصل أن يشارك شاعره المفضل رحلته الادبية,  على أي حال, تنتهي كل الاحتمالات بأن شخصية طلال فيصل في سرور هو مجرد ساعي.
 
يرد في الرواية انتقاد لعديد من الفنانين والكتاب في فترة الستينيات في حوارات نجيب سرور مع شخصيات الرواية. لتعرض الرواية فكرة هامة وهي صدام اشباه المواهب مع الموهوبين بسبب انهيار معايير الفن والثقافة في المجتمع. تظهر مؤامرة المخابرات المصرية على نجيب سرور بشكل رمزي, فهي تمثل خيانة الدولة لابناءها. فيذم نجيب سرور (على لسان شخصيات الرواية) محمد عبد الوهاب ويتهمه بالسرقة, وينتقد هيكل وجمال عبد الناصر وعبد الحليم وجاهين متهما اياهم بخيانة الوطن لحساب المصلحة الشخصية. تظهر حساسية نجيب سرور المفرطة بوضوح في الرواية فهو يمثل نموذج الفنان مرهف المشاعرالنمطي, يتأزم من أقل التفاصيل ويشعر بضيق مبالغ فيه مقارنة بباقي من حوله عندما يشهد ظلما أو فسادا في وطنه. فتفتح علامات استفهام اخرى بلا اجابة في الرواية: هل عانى سرور فعلا من الفصام؟ وهل علاج مرض نفسي حقيقي عند سرور جعله مواطنا كفؤ؟ وما  مقياس كفاءة سرور في عين الطب والوطن كمواطن؟ تترك جميع الاسئلة لخيال القارئ ومبادئه الشخصية ليجيب عنها.
 
"ألم أقل من قبل أنني من الشموس كالشهاب.. أجود باللهيب لحظة وانطفئ"
يناقش الكاتب القارئ مقارنة شاعر العقل نجيب سرور بنبي صلب قبل اتمام مهمته التبشيرية عن طريق سرد فكرة عرضها نجيب سرورسابقا في احد كتاباته عن الكتيبة الخرساء بقيادة ابو العلاء المعري الذي وضع شفراتها في اشعاره. فهو في نظر المجتمع, نجم ساطع لم يستطع التأقلم مع عصره فنُسي ولم يبق منه إلا قصيدة بذيئة لا يصح تناولها في المجالس. فتعاد القصة مرتين بتفاصيل مختلفة, مرة في الاتحاد السوفيتي ومرة في مصر. يحتك نجيب بالمجتمع ويختلط فينبغ ويسطع نجمه ثم يعارِض ويُفنَى. شارك نجيب سرور الكادحين اراؤهم ثم ترك ليموت منسيا كحال كل الكادحين, إلا أن سرور ضحى وخسر من اجل مجتمع خذله في نهاية الامر.
 
في فكرة أخيرة ظاهرة من خلال الصراع بين النجيبين: محفوظ وسرور, تعرض الرواية النكسة في عيون نجيب سرور. تختفي وجهة نظر محفوظ من السرد وتظهر وجهة نظر سرور فقط في مشهد أخير قبل وفاة سرور في العباسية حين يزوره الاول ليستعلم عن حاله ويطمئن على وضعه الصحي. يظهر محفوظ كعادته, هادئ بلغة متزنة واجابات قصيرة واضحة, أما سرور فكعادته شديد الحساسية يسهب في وصفه لمحفوظ ويعرض عليه لائحة التهم الموجهة اليه. كيف خان محفوظ موهبته وترك قلمه ليظلل على عرش الحاكم بينما المواطن المصري يعاني الأمرين. ويترك للقارئ مرة اخرى القرار في الحكم على محفوظ. يصل القارئ لنهاية الرواية حاملا عدة احتمالات. رواية سرور تجربة فريدة للغاية تحتكم على عنصر الموضوعية الخالصة في سرد قصة تراجيدية للغاية تجبر في طياتها القارئ ان يتعاطف مع سرور حتى وان اختلف معه.

 

 

 

 

Comments

Popular posts from this blog

ماذا عن اشباح مقاعد اصداقئنا الشاغرة المليئة بالذكريات فقط؟

أتدري ما الأشد وطأة من الكسل؟ المهاترة الفارغة.